النقاب في المستشفيات- بين حق المريضة وحرية المريض
المؤلف: فؤاد مصطفى عزب08.13.2025

استقبلتُ في مكتبي رجلاً مُسنًا، وقورًا، أتى متهاديًا بين جموع المرضى الذين أعرفهم حق المعرفة، كان يجرجر عكازه الثقيل على الأرض، وكأنه أسيرٌ مربوط إلى صخرة صلبة. عندما بسطتُ يدي لمصافحته، ضغط عليَّ بيده المُرتعشة قوة، وكأنه يتحقق من وجودي المحسوس. ما لبثت أن استسلمت أمام سحر ابتسامته العريضة التي كادت أن تلامس أقصى حدود وجهه المُتجعد. جلسنا وجهاً لوجه. سألني عن أحوالي بكل بساطة، فحمدتُ الله في خفاء على تلك اللمسة الإنسانية التي كسرت حاجز الجليد بيننا. استهل حديثه قائلاً: "أشعر وكأنني أعرفك منذ دهرٍ مديد، لا أقصد فقط هيئتك أو قسمات وجهك، بل شخصيتك وأفكارك أيضًا، فأنا من قُرّائك ومتابعيك منذ زمن بعيد." أثار اندفاعه دهشتي بعض الشيء. صمتَ برهة قبل أن يستأنف حديثه بهمس خفيض، وكأنه يُحدّث نفسه. ثبّت عينيه في عيني وقال: "أنتم تحرصون كل الحرص على معرفة هوية المريض، رجلاً كان أو امرأة، قبل الشروع في علاجه، بل والحصول على ما يثبت شخصيته الحقيقية من خلال وثائق رسمية معتمدة، أليس كذلك؟" أجبته بالإيجاب. عندها زمَّ شفتيه بازدراء لاذع، ثم تابع بنبرة حادة وغاضبة: "ولكنكم تحرمونني من حقي الأصيل في معرفة هوية من يعالجني! لقد صُدمت عندما اكتشفت أن من باشر علاجي منذ دخولي المستشفى وحتى خروجي هي طبيبة منقبة، متخفية وراء ستار، حرمتني من الشعور بالتواصل الإنساني والطمأنينة الضرورية التي تُعتبر جزءًا لا يتجزأ من العلاج الناجع. لقد نسيتم المبدأ الإنساني السامي بأن إخفاء الوجه هو اعتداء سافر على حرية المريض، الذي يحق له أن يعرف من هو الشخص الذي يقوم على علاجه ويتفاعل معه." أجبته بتهذيب مصطنع، وتحدثت بلهجة باردة جامدة، أردتها كالدش المثلج الذي يُطفئ فورته وغضبه: "التحجب هو حق شخصي مُطلق، ونحن مجتمع مُحافظ بطبعه، ولسنا بصدد الاختيار إلا بين خيارين أحلاهما مُر، بين المتشددين والمتبرجات، فأيهما أفضل؟ أن نُخرّب أُسس المجتمع أم نحافظ على مجتمعنا المحافظ؟" شعرتُ برعشة خفيفة تسري في جسده النحيل، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه. تنهد بعمق، ثم التفت إليّ قائلاً: "ما تقوله مجرد شعارات فضفاضة مُفعمة بالمغالطات والتناقضات الصارخة. نحن مجتمع محافظ... ههه! يُحافظ على ماذا تحديدًا؟ ولماذا لا نقول بأننا مجتمع مُتناقض أهوج، يختلف باطنه عن ظاهره، وأن ما يحدث في الخفاء أبشع وأدهى مما نتصور؟ من تريد أن تتحجب، عليها أن تبتعد عن العمل في القطاع الصحي الحساس، فليس من العدل أن أتعامل مع موظفة لا أرى وجهها! ربما هذه أختها أو صديقتها أو جارتها أو حتى أخوها أو خالها متنكرًا! ومن الناحية الأمنية، كيف يتفق ما تقومون به من نشر الكاميرات في أرجاء المستشفى، والتي تسجل كل شيء، مع السماح للمنقبات بالتجول بحرية؟ فإذا جلست منقبة وتركت قنبلة في زاوية ما واختفت عن الأنظار، كيف سترصدها الكاميرات وتحدد هويتها؟" قالها وكأنه غرس خنجرًا صدئًا في أعماق روحي. أخذتُ أنصت إلى حديثه المتدفق وهو يواصل: "يوجد علم كامل، كما أوضحت لي ابنتي (الممرضة)، له منهجه ودرجاته العلمية المتخصصة، يُدعى (مكافحة العدوى)، لأن المستشفيات، كما هي أماكن للاستشفاء، هي أيضًا بيئات خصبة للعدوى إذا لم يتم تطبيق معايير ولوائح المكافحة الصارمة التي تحدد بمنتهى الدقة نوع وخامات الملابس وأقنعة الوجه والقفازات والرداء الواقي بين المريض ومقدم الخدمة الطبية! بل إن هذه المعايير تقرر أولوية ارتداء الملابس ثم أولوية خلعها، فلا يجوز خلع القناع الواقي قبل القفازات بعد التعامل مع المريض، وهكذا يتدخل العلم في أدق تفاصيل عمل مقدم الخدمة الطبية." بقيتُ مُصغيًا بإنصات شديد، وأنا أكتم دهشتي العارمة طوال هذا الاندفاع الحماسي في الحديث. كان كلامه علميًا مُحكمًا ومنطقيًا، ويسير بثبات وفق رؤيته الخاصة. كنتُ أعرف مسبقًا ضعفي الأزلي في مجادلته، وفي هذا الرهان الخفي بين القوة والضعف، استفزني قائلاً: "اخلع عنك يا دكتور حجابك المنسوج من الغيوم وأرني وجهك النقي الصافي! لماذا لا تسن قانونًا صارمًا في مستشفاك تمنع فيه النقاب وطمس الوجه في بطاقات التعريف التي تحملها الإناث العاملات؟" استيقظتُ من غفوتي، وتمتمت بلهجة مُنهزمة: "أنا شيخ طاعن في السن، قاب قوسين أو أدنى من القبر، أريد فقط سلامًا داخليًا يأخذني إلى ربي، كما أريد نهاية هادئة ومُفعمة بالصحة والعافية والسكينة." قلتها وأنا أتنهد بأسى. أخذ ينصت إلى نبرتي المستسلمة، وفي لحظة خاطفة انتصب ممسكًا بعكازه، وتدفق في الكلام بحماس شديد، وكأنه يناضل ضد صمتي المُطبق. قال لي: "يا دكتور، إذا انسحبت أنت وانسحبت أنا وانسحب آخرون، فمن سيتكلم؟ من سيغير هذا القبح المتفشي في هذا الوطن؟ لنكن صريحين ولو لمرة واحدة في العمر!" قالها وترك المكتب وهو في غاية التوتر، يضغط على شفته السفلى بمقدمة أسنانه. تلك الجملة القاطعة حسمت حوارنا الذي لم يكتمل! فاتني وأنا أودع ضيفي الثمين أن أسأله سؤالاً هامًا: هل ابنتك (الممرضة) منقبة أم لا؟